adad shahba demo

أمهات تُحاكمنَ الغياب وتغسلنَ وجع الانتظارِ بالدمع

تجتمع أُمهات المفقودين والمفقودات ونساء المدينة كل ثلاثاء على المدرّج الروماني في شهبا، في وقفات تفيض بالدمع والألم والانتظار، للمطالبة بالمختفين والمختفيات قسراً من السويداء، منذ منتصف تموز الماضي، الذي غيّر حياة أبناء المحافظة إلى الأبد.

لم يَعُد تجمع النساء مشهداً طارئاً في يوميّات مدينة شهبا. المدرج قاعة اغريقية مفتوحة لمحاسبة القَتلة، للبوح وعلاج ندبات الفقد، للصراخ عالياً. كل درجة منه تصطف عليها مجموعة بشكلٍ منظّم. تنزف حكايا وأنّات مخنوقة، تصرخنَ في كورال واحد وجع المدينة. 

الأمهات لا يحتجن صوراً لتوثيق انكسارهنّ وجرحهنّ الموشوم على القلوب والعيون، غير أنهنّ يرفعنها أمام الكاميرات وكأنهنَّ يتباهينَ أمام العالم بوسامة الوجوه الغائبة. 

أصبح الثلاثاء يوماً غيرَ عادي عند أمّي؛ صار موعداً لتغيير ضمادة جرحٍ لا يتوقف عن النزف. تحمل صورة أخي حسن الحلبي، المفقود منذ السادس عشر من تموز الفائت وتلتحق بصديقاتها. وقفةٌ تتكرّر كي تذكّر أن الحداد لم يكتمل، وأن الغياب أكبر من أن يُستوعب.

أخبرتني أمّي أنها ستشارك أيضاً يوم السبت الفائت، ٢٧ أيلول، بوقفة خاصة بالمفقودين والمفقودات. ولاحقاً تبين لها أن هناك فرقة موسيقية ستغني لشهداء المدينة. شاهدتُها بالفيديو الذي غطّى الفعّالية، مُتشبثة أكثر بصورة أخي وكأنها لا تريد أن تنتمي للوقفة، لكنها كانت تبكي بمرارة مع أمّهات الشهداء وتغني بصوت مخنوق معهنّ، وكأنهنّ كورس مُرافق للفرقة “ويا إمّي يا السويدا…”

hasan al halabi
تصوير: بهاء عماد – السويداء ٢٠ أيلول ٢٠٢٥ – والدة حسن تشارك في مظاهرة السويداء للمطالبة بالمفقودين

هكذا تحوّل المدرّج إلى أرشيف بشري شاهدٍ على الحقيقة: تاريخٌ صامت يحتضن وجوهاً تتكلّم، وأمّهاتٍ يكتبن بأصابعهنّ الحكاية من جديد، على جدران الزمن وعلى بازلت المكان.

تحمل أمي صورة أخي حسن كلما خرجت من منزلها المستأجر في شهبا، تلك الصورة الوحيدة الباقية على هاتفها له في دمشق، يضحك فرحاً منتصراً بعد أن أعاد تقديم أوراقه للمعهد الطبي، ليتابع دراسته المنقطعة، وهو المُتخلف عن الالتحاق بجيش النظام السابق، الرافض حمل السلاح بوجه أهله السوريين، تتعلق بهذه الصورة وتسندها رغم ضعفها ومرضها، كأنها تسند حسن وتعينه على البقاء واقفاً منتصباً. 

أخي ابن  الثلاثين عاماً أصغرنا، مقيم مع والدتي في قريتنا الصَّورة الصغيرة، بالريف الشمالي على طريق السويداء-دمشق، أمّن والدتي في منزل استأجرناه في شهبا وقت الهجوم على المحافظة، وبقي في منزلنا بالصَّورة، ليختطف ويُغيَّب عنا في السادس عشر من تموز الماضي، على أيدي المجموعات المسلحة التابعة للسلطة السورية.

أَجتمعُ مع إخوتي وأختي كل صباح عبر الهاتف، فهم جميعاً خارج سوريا، يلح علينا سؤال واحد فقط: هل من جديد؟ لكننا آثرنا ألا نخبر أمي عن اختفاء حسن، خفنا عليها وهي المريضة بأكثر من داء، خفنا على قلبها المتعلِّق بصغيرها، وصرنا نمد لها حبال الأمل، بحججٍ كسوء شبكات الاتصالات وانقطاع الكهرباء، إلى أن علِمَت صدفة من أحد أبناء قريتنا، ومن يومها تحولت حياتها إلى معركة انتظار وألم.

الفيديو من تصوير: ربيع بلان، المقابلة: حنين القنطار

صار مدرّج شهبا محجّاً لها كل ثلاثاء، رغم ضعف الجسد وصعوبة الوصول، تصعد الطريق الجبلي حاملة صورة حسن، قد تكون محظوظة أحياناً بمن يوصلها، وتشق طريقها بنفسها أحياناً، لتنضم إلى الأمهات التي تعرفت إليهن، يتقاسمن الألم والأمل كرغيفٍ أسود، ويتبادلن نتف الأخبار والمعلومات، ويرفعن صور الأبناء في وجه الغياب.

ترفع أمي الصورة بعزم وإصرار كأنها كل مرة تقرّب ابنها إليها خطوة فخطوة، كأنها تراه عائداً يركض نحوها، حاملاً حلمه كشراع، أن يكون طالباً عادياً يعيش حياة عادية، لا اسماً في سجل الفقد السوري، وأتفرج عليها أنا المقيم بعيداً عن السويداء كل أسبوع، في الصور ومقاطع الفيديو التي تنشرها المنصات، أنظر في عينيها الدامعتين المنتظرتين، وأتساءل: متى يعود حسن إلى حضنها؟ متى يعود المختفون جميعاً إلى عائلاتهم التي أعماها البكاء وأرهقها الانتظار؟