img 0137

الأمان أصل الحكاية: كتابة المصير من الساحة

كل ما جرى في السويداء أمس، السبت ٢٠ أيلول ٢٠٢٥، يمكن اختزاله في لافتة واحدة تحملها سيّدة مسنّة: «الأمان حق لكل إنسان». اخترنا هذه اللافتة لأننا نرى فيها أصل الحكاية، وما عداها تفصيلٌ منطقيّ يتفرّع عنها: تحرير المختطفات والمختطفين، فتح المعابر، العدالة والمحاسبة، ثم شكل الإدارة والقرار. من دون الأمان يبقى كل شعار معلّقاً في الهواء؛ فإذا صين الأمان صار ممكناً الحديث عن الحقوق والسياسة بلغة واقعية ومحسوبة.

تحت هذا المعنى تقدّم عنوانان رئيسيان في التظاهرة: الحق في تقرير المصير، وتحرير المختطفات والمختطفين. حولهما توزّعت لافتات تصيغ خريطة طريق بلا زينة لغوية. “لا عيش بلا كرامة وحرية”. “لا صلح ولا تصالح مع الإرهاب”. “من جذور الأجداد تنبت الحرية”. “معاً نبني مستقبلنا بحرية وسيادة وكرامة جبل وحرية أهله”. وطُرحت مطالب عملية مثل فتح معبر رسمي آمن تحت حماية دولية لتأمين مرور المساعدات واحتياجات الناس الأساسية. كما ظهرت رسائل واضحة تنتقد إغلاق المعابر وما يلحقه من تشديد على حركة المدنيين، وتحذّر من تدخّل المال السياسي ومن مظاهر التطرّف في التعليم والإدارة. لم يكن ذلك تناثراً في الشعارات، بل طبقات متكاملة لمعنى واحد هو الأمان: حماية الحياة والحرية، صيانة العيش والخدمات، عدالة تحمي السلم الأهلي، ومشاركة سياسية تضع الناس في قلب القرار.

التحقّق المطلوب يعزّز هذا النهج. تقارير إنسانية أممية١ وثّقت أنّ التصعيد الذي بدأ منتصف تموز قاد إلى حركة نزوح واسعة عبر السويداء ودرعا وريف دمشق، وقدّرَت اليونيسف قرابة ١٩٢ ألف حركة نزوح خلال تموز وحده، مع تعقّدٍ كبيرٍ في الوصول الإنساني واستعمال مدارس كمراكز إيواء وتعطّل مصادر المياه والكهرباء. هذه الصورة ظلّت حاضرة في الخلفية وهي تُفسّر إصرار الشارع على ربط المطالب الكبرى بإجراءات حماية ملموسة وقابلة للقياس.

وعلى مستوى التفاصيل الحيوية، تُظهر تحديثات اليونيسف الأخيرة٢ أن محطاتٍ مائية محورية باتت «شريان حياة» لعشرات الآلاف، وأن الاستجابة العاجلة تميل إلى تزويد المياه الطارئ، وتمويل الوقود لمنظومات الضخ، وتأهيل الآبار، إلى جانب قوافل متعددة القطاعات دخلت المحافظة خلال آب رغم تعقيدات الوصول. معنى ذلك أن مطلب «فتح معبر رسمي آمن تحت حماية دولية» ليس ترفاً سياسياً، بل تسمية دقيقة لاحتياجات يومية لا تستقيم حياةٌ من دونها.

أمّا ملفّ المختطفات والمختطفين الذي تصدّر المشهد، فليس تفصيلاً عاطفياً، إذ لا معنى لحوار سياسي فيما عائلات كاملة معلّقة على خبر. الواقعية هنا ليست مزاجاً بل منهج: قوائم دقيقة ومحميّة، قنوات تواصل موثوقة لتبادل المعلومات، ومرافقة نفسية واجتماعية تصون الكرامة، إلى جانب ضغطٍ مدنيّ ودينيّ يثبت الملفّ على الطاولة ويمنع تسليعه. بهذا المعنى تتحوّل الشعارات إلى إجراءات.

على الضفة القانونية، عاد خطاب المجتمع المحلي ليتقاطع مع مسارٍ أممي مطروح: تحقيقٌ مستقلّ ونزيه يحفظ الأدلة ويحمي الشهود ويعيد ترتيب الوقائع بعيداً عن التسييس. ولهذا جدّدت الجهات الحقوقية والمنظمات الإنسانية التذكير بأن الوصول الآمن للجان تقصّي الحقائق واستمرار القوافل وإعادة تشغيل الخدمات الأساسية كلها شروطٌ ضرورية لاختبار جدّية أي «خريطة طريق». وفي الصورة الأوسع، تسجّل مصفوفات تتبّع النزوح لدى المنظمة الدولية للهجرة٣ أعداداً كبيرة للنازحين داخلياً في محيط السويداء مع غلبة الاستضافة الأسرية وارتفاع الحاجة إلى المأوى والمياه والمساعدات النقدية؛ وهي معطيات تفسّر إصرار الشارع على وضع الأمان في الصدارة، لأن الاستقرار الاجتماعي يبدأ من الماء المضمون والبيت المأمول قبل أي صياغة دستورية أو إدارية.

هنا يتقدّم سؤال «تقرير المصير» بواقعيته لا بحدّته. في المآذارة الدولية يبدأ المسار من الداخل: إدارةٌ مدنيةٌ خاضعة للمساءلة، تمثيلٌ منصف، وضماناتٌ فعلية لحقوق الأقليات في الهوية والمآذارة والثقافة. فإذا أُغلقت هذه الأبواب واستمرّت الانتهاكات، يصبح مشروعاً فتحُ مسارٍ تشاوريٍّ بإشرافٍ دوليّ يحدّد شكل الإدارة الأنسب، على أن يُبنى كلّ ذلك على حمايةٍ وعدالةٍ لا على خوفٍ وابتزاز. هذا الترتيب ليس هروباً من «الأسئلة الكبيرة»، بل الطريقُ الأقصرُ لمواجهتها من غير خسائر إضافية.

في المحصّلة، ما خرج من الساحة لم يكن بيان قطيعة بقدر ما كان مسودة عقدٍ اجتماعيّ جديد بكلمات بسيطة: الأمان أولاً، فالعدالة التي تسدّ منافذ الإفلات من العقاب وتُحصّن السلم الأهلي، فالمشاركة التي تُعيد القرار إلى أهله. تحت هذه البوصلة يستعيد «تقرير المصير» معناه العملي، فينزل من اللافتة إلى الأرض: تحريرٌ آمنٌ للمختطفات والمختطفين، فتحٌ منضبطٌ للمعابر ومسارات المساعدة، تحقيقٌ مستقلّ يثبت الحقوق ويمنع التلاعب بالملفات، ثم تشاورٌ شعبيٌّ يختار شكل الإدارة وهو مطمئن. الصورة التي بدأنا بها هذا النص ليست تفصيلاً جمالياً؛ إنّها بندٌ أوّلٌ في أي سياسة جدّية. فكل خطوة لا تزيد تلك السيّدة أماناً لا تُسمّى سياسة، وكلّ ما يقربها من يومٍ طبيعيّ يستحق الدفاع عنه والبناء عليه. هكذا فقط يُكتب المستقبل من ساحةٍ مكتظّةٍ بالشعارات: بجملةٍ واحدةٍ صادقةٍ تتقدّم، وبحقائقَ موثّقةٍ تسندها، وبخطواتٍ متتابعةٍ تقودُ من الشعار إلى الواقع.


  1. تقرير اليونيسيف عن الحالة الإنسانية: رقم ١٣، تموز/تموز ٢٠٢٥ ↩︎
  2. تحديث إنساني عاجل رقم ٤ (تصاعد الأعمال العدائية في محافظة السويداء)، ٢٥ آب/آب ٢٠٢٥ ↩︎
  3. التتبّع الطارئ وتقرير الحالة الإنسانية: صراع السويداء – الجولة ١٢ (٢٤ آب/آب ٢٠٢٥) ↩︎