لا صفّارات إنذار. لا وصفات سحرية للنجاة.
وحده الحظ الذي يبدو كمهرج يوزع حصص متفاوتة من الخراب، مهرولاً على هامش أرتال القتل التي اندفعت إلى السويداء من ريفها الغربي والشمالي وصولاً إلى قلب المدينة؛ المدينة التي هي مستقر زيدان، محطة من الرفاق القدامى والأهل والضحكات والمسرات.
كان زيدان قد عاد بعد سنوات من الاغتراب، عقب سقوط نظام الأسد، إلى قريته تعارة. أعاد تأهيل بيت العائلة، واشترى شقة في مدينة السويداء، أثثها بعناية، وعلّق قمصانه الأنيقة وبدلاته الرسمية استعداداً لحياة هادئة ومريحة بعد عذابات الاغتراب والعمل.
لم ينتبه إلى أن هذه البلاد لا تهب أحلاماً إلا لتبتلعها، وأن الجغرافيا هنا تميد حين تشاء. فصباح ١٣ تموز، كانت تعارة بوابة لاجتياحٍ، دفع بأهلها نحو شقوق الوعر، لينحتوا عتبة للغربة، نُثرت أجسادهم على الأرض. وتدفقت أمتعتهم في مأوى البرد واللصوص. تركوا وراءهم أجسادهم كميثاق منثور.
تعارة وخمسة وثلاثون قرية أخبرتنا النار عن عذاباتها. طوقت الأرتال أرض المجزرة، وطافت لصوصهم فوق شهداء البيوت.
نجت أجساد زيدان وعائلته. هاموا شرقاً نحو المدينة. احتموا في شقته الجديدة على بعد ٢٥ كيلومتراً من بيت العائلة.
في ١٤ تموز وصلت الأرتال إلى المدينة، طاف الرعب في كل زواية، وكل بيت. خلف الأبواب رُكب ترتعش كمفاصل العنكبوت. أمهات التقطن أنين أطفالهن وكتموه. وفي الأحياء مزنجرات تجرش الطرقات، اقتحموا البيوت وقذفوا الناس من الشرفات.
مرة أخرى، نجا زيدان. فمع وصول الأرتال إلى المدينة، انتقل زيدان مع عائلته إلى قرى بعيدة في الجبل. بعد ساعة فقط من خروجهم، توقفت دبابة في الشارع المقابل وأدارت فوهتها نحو الشقة وأرسلت قذيفة اخترقت الجدار الذي رُكّبت خلفه الخزانة. انفجرت الشقة وتحوّلت إلى ركام.
عبر الهاتف، أخبره جاره، الذي قضى يوم الهجوم عالقاً في قبو البناية، أن قمصانه وشراشف النوم توزعت في الحارة. وقال في اتصاله أيضا: نكتة، أزالت الردم الذي تشكل على صدر زيدان بعد الخبر “الحمدلله يلي ما كنت لابسن”.
الأضرار في الشقة المجاورة لشقة زيدان محدودة وباقي الشقق في البناية لم تصب بضرر ، وحدها شقة زيدان دُمِّرت. بدا الأمر كأنه شخصي جداً. لقد لاحقوه منذ عام ٢٠٠٨، منذ أن قرر السفر والعمل، ثم العودة للاستقرار بين أهله. واليوم جاءوا لقصف المرحلة الاخيرة، مرحلة الاستقرار. أذكياء وفلاسفة أولئك المهاجمين، يعرفون جيداً أن الأحلام عندما تتحقق تموت، واليوم جاؤوا لدفنها.
مصيبة زيدان، مهما بدت فادحة وثقيلة، لا تُقارن بالفظائع التي صبّت حممها على السكان. فهناك أولويات للقهر، تتبع شكل الانتهاك وطريقته.
وزّعت الأرتال ومهرجها حصص القتل، وتلك كانت حصة زيدان.
لا يبدي زيدان، وبعد خمسين يوماً من الواقعة الدموية، أي ملمح يائس. يواظب على زيارة شقته المدمرة عابراً حي العمران الذي خصه المهاجمون بحصة كبيرة من التدمير أقلها حرق البيوت وتدمير المحال التجارية مع رسائل على الجدران. أكثر ما يزعج زيدان فيها أخطاؤها في الإملاء. “مرعبة جداً عبارة (بالذبح جيناكم) عندما تحوي خطأ إملائي” على حد قوله.
في كل زيارة يقوم بها زيدان لشقته المدمرة مجتازاً البيوت والمحال المحروقة، تسري في عقله مقارنات بين حصص الناس من الموت والدمار، ويستمر سجال المقارنات في رأسه حتى يبلغ عتبة بيته المدمر، فتغادر من أنفه روائح البيوت المحترقة ليجد نفسه أمام دماره الخاص، دمار بلون الشقة نفسه على الأقل، وبمجرد إعادة تعميره يفقد ذاكرته إلى الأبد.
في تلك الزيارات يصنع زيدان أكواماً من المقتنيات الممزقة. ينقب عن أشياء يتذكر مكانها ويخمّن تحت أي موضع من الردم ستوجد. وجد خلال الأيام القليلة الماضية صور شخصية ومستندات وجوازات سفر منتهية الصلاحية، كانت ممزقة ومسحوقة. وحده جواز السفر ساري المفعول وجدهُ سليما كدعوة للرحيل.
الكومة الأولى التي صنعها هي للقمصان والبدلات التي كان عليه التقاط بعضها من الحي بعدما نثرها الانفجار في الأرجاء. القمصان على وجه التحديد ممزقة بطرق متعددة: قطع أكمام، ثقوب، قبة مهروسة.
“كل ما لاقي قميص وحطو ع الكومة بتذكر نكتة جاري، منيح ما كنت لابسن” يقول زيدان.
يجتمع مع الرفاق القدامى الناجين بشكل شبه يومي، وحصتهم المشتركة مع قرابة ١٥٠٠٠٠ مهجّر من ٣٦ قرية، هي فقدان كل شيء، وأمل يتلاشى بالعودة إلى تلك القرى. في ظل حصار خانق و خطاب تحريضي يحيط بما تبقى من المدينة ويهدد بتعرضها لاجتياح جديد وحصص جديدة من القتل.