السويداء / ٤ أيلول ٢٠٢٥
لم تكن الثعلة خبراً يمر، بل امتحاناً لذاكرة محافظة كاملة. في تموز اندفع الاجتياح وسقط أكثر من ستين شهيداً من أبناء البلدة. كان الموت سريعاً والدفن أسرع تحت دخان كثيف وخطر قائم. لم يتسع الوقت لوداع يليق بهم، فبقي الحق مؤجلاً في صدور الأمهات والآباء والإخوة، وبقيت الأسماء تتجوّل في البيوت كأطياف لا تهدأ.
حين تنفّس الجبل قليلاً، جاء الرابع من أيلول كنافذة مفتوحة على ما سُرق. تحوّلت ساحة سمارة في السويداء إلى بيت عزاء عام. لم تكن هناك نعوش، فالقبور سبقت المشيّعين، لكن الصور ارتفعت كأنها أجساد ثانية، والأسماء قُرئت بصوت واحد يعيدها من الغياب. بدا التأبين رمزياً في شكله، لكنه في معناه أشد واقعية من أي موكب، لأنه استردّ حقاً مؤجلاً وأعاد للحزن صفته العامة المشتركة.
تدفقت الحشود من القرى والبيوت. رجال وشيوخ وشباب وأطفال، كلّ يحمل نصيبه من القصة. امتزج البكاء بزغاريد طويلة لا تُطلق ابتهاجاً، بل لتثبيت الاسم في الهواء. شيئاً فشيئاً صار الحزن جسراً يعبره الناس معاً بدل أن يبقى جداراً يسند كل بيت وحده. صارت الساحة لغة مشتركة، ووجد الفقد ما يحميه من الصمت.





الأكثر فرادة أن النساء كن في قلب المشهد. تقليدياً يجتمعن للعزاء في مقام عين الزمان، وهذه المرة أصر أهالي الضحايا على أن تقف الأمهات والأرامل والأخوات في ساحة سمارة نفسها. رفعن الصور، وقلن بصوتهن إن الذاكرة لا تكتمل من دونهن. لم يكن ذلك تفصيلاً اجتماعياً عابراً، بل قلب الفكرة. فالطقس في لحظات الانكسار لا يُعاد حرفياً، بل يُعاد صياغته بما نحتاجه لكي نبقى بشراً. دخول النساء إلى الساحة حرر الوداع من قيده القديم وجعل الفضاء العام مرآة صادقة للجرح.
بهذا المعنى غدا التأبين الرمزي واحداً من أعمق أفعال المقاومة. فالمجزرة تريد تفريق الأسماء وإسكاتها، بينما الطقس العام يجمعها ويرفعها. تريد أن تحبس الفقد داخل الجدران، بينما الساحة تمنح الحزن لغة وصدى ومسافة مشتركة للمشي. في تلك الساعات بدا أن معنى المدينة ليس حجراً ولا مبنى، بل قدرة ناسها على تحويل الألم إلى معرفة، والمعرفة إلى رابطة، والرابطة إلى وعد بالحياة.
لم يكن ما جرى مجرد رثاء لشهداء الثعلة، بل إعادة ترتيب لما تعنيه السويداء لنفسها. حين تصير الساحة مكاناً للنساء والرجال معاً، تتبدل خرائط الطقوس وتكتب سيرة جديدة للمدينة. سيرة تقول إننا لا نملك دائماً أن نمنع الموت، لكننا نملك أن نمنع نسيانه. وإن كانت الأجساد قد سبقت إلى القبور، فإن الأسماء وجدت في الرابع من أيلول طريقها إلى العلن، فعادت إلى أهلها محمولة بوعد الذاكرة وحق الوداع الذي يصنع للبلد معنى يبقى.





