في جبلٍ لا تُقاس فيه الأمكنة بالأمتار، بل بما تختزنه من وجدانٍ وكرامة، تتجلّى المضافة في السويداء كأكثر من غرفة استقبال أو طقس ضيافة. إنها فضاءٌ اجتماعيٌّ مركّب، يُعيد إنتاج المعنى والهوية الجماعية والذاكرة، تماماً كما وصف الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر في نظريته الشهيرة حول ثلاثية الفضاء: الفضاء المدرك، الفضاء المتصوَّر، والفضاء المعاش.
في المستوى الأول، الفضاء المدرك، تظهر المضافة كجسد معماري: جدران بازلتية، مقاعد اسمنتية، طاولة قهوة، بابٌ مفتوح على مصراعيه، وصور رموز. لكنها لا تُفهم من خلال هندستها فقط، بل من خلال ما تُنظّمه من علاقات، وما تُوزّعه من سلطة رمزية.
في المستوى الثاني، الفضاء المتصوَّر، تتحوّل فيه المضافة إلى خيالٍ اجتماعيٍّ يُعيد تشكيل العقد الرمزي للجبل. إنها ليست مجرد مكان، بل نموذجٌ يُعيد إنتاج العلاقة بين الفرد والجماعة، بين الطقس والسلطة، بين الحياد والانتماء. هنا تُصاغ مفاهيم مثل الحكمة والكرامة والحماية، ضمن بنية رمزية تُحاكي الدولة دون أن تكونها.
أما في المستوى الثالث، الفضاء المعاش، فهو قلب المضافة النابض، حيث تُختبر القيم، وتُنسج الحكايات، وتُمارَس الطقوس اليومية التي تُعيد الجماعة إلى ذاتها. في هذا الحيز، لا تُقال الكلمات فقط، بل تُعاش، وتُحسّ، وتُورَّث. إنه فضاءٌ يُقاوم النسيان، ويُرمّم الشروخ، ويُعيد بناء الثقة حين تتفكك الروابط.
وحين يُعتدى على هذا الفضاء، لا يُدمَّر المكان فحسب، بل يُخترق التصوّر، ويُشوَّه المعاش، ويُنسف الإدراك. فالمضافة، بهذا المعنى، ليست تراثاً معمارياً، بل جهازٌ حيٌّ لإنتاج الجماعة، وصيانة الذاكرة، ومقاومة التفكك الرمزي.
هذا النص لا يصف المضافة، بل يُعيد قراءتها كفضاءٍ ثلاثيٍّ يُنتج الانتماء، ويُجسّد كيف يمكن للرمز أن يتحوّل إلى وطنٍ مصغّر، وللحجر أن يُصبح ذاكرةً حيّة.
جوهر المضافة في السويداء:
إنها ليست مجرد مكان، بل هي آلية وجود جماعي تختزل المجتمع في حيز واحد. هنا يتجلى تناقض عجيب؛ غرفة حجرية بسيطة تتحول إلى دولة مصغرة، و منزل خاص يتحول إلى فضاء عمومي، وهنا تكمن عظمتها:
إنها كيان حي يتنفس تاريخاً ووجداناً، نسيجٌ اجتماعيٌ يربط أبناء الجبل بخيوط من كرامةٍ وألفةٍ وحكمة. فهي بيت الذاكرة الجمعية، وحاضنة الأسرار، ومحراب السلم الأهلي الذي يحرسه الرجال كحراستهم لأرواحهم. بل إن المضافة هي فضاء حيوي يجسّد الثنائية الفريدة بين الخاص والعام، ويختزل مجتمع متكامل في حيز صغير واحد.
جسد المضافة: هندسة الوجوه الثلاثة:
تتشكل المضافة ككائنٍ مستطيلٍ يميل إلى التربيع، تحيط به “التواطي”: مقاعد اسمنتية أو بازلتية ترتفع على ثلاثة جدران، بينما يطل الباب الكبير على الجهة الرابعة كحارسٍ للضيوف. في زاوية الباب، تقف طاولة عالية كعرشٍ للقهوة : عليها “البراد” يحرس حرارة القهوة المرة، وأدوات التحميص، و”الترشريبة”: مُرَكز روح القهوة المغلية التي تحفظ عدة شهور وتُهدى كعربون مشاركة للجيران في الأعياد ليصنعوا قهوتهم الخاصة من هذا الاسنس. وفي المنتصف، تتربع طاولة “النُقل” (السكاكر) حيث يُوزَّع السكاكر بالجوز (ثنائي) تجسيداً لرمزية خلق الكون بثنائيات.

جدران تتحدث: صورٌ وهويةٌ وانتماء
على الحائط المقابل للباب “الصدر” تعلو صور سلطان باشا الأطرش، أو شيوخ العِقل، أو “أبطال” العروبة كعبد الناصر، أو رموز اليسار العالمي أو كلهم مجتمعين. هنا لا تُخبأ الانتماءات؛ فالمضافة برلمان الجبل حيث تتعانق الآراء المتباينة تحت سقف الحياد. إن دخلتها، فأنت في حِمى “أهل المضافة”، وحريتك مُصانة ما دمت تحترم رموزها. الحياد المكاني يجعل الخصوم يقبلون بما لا يقبلونه خارجها، حيث تُنسج المصلحة المشتركة من خيوط الحوار.
المضافة: دارة المصالحات والسلم الأهلي وغرفة عمليات
تُحاكي المضافة محكمة العُرف التي يُحسم فيها النزاع بجلسة عقلاء وحكماء. فيها يُرفع “عقد الراية”: تنازلٌ علنيٌّ عن الثأر، وتُعلن الأحكام التي يقبلها الجميع طلباً للسلم واحتكاماً للعقل.
كما إنها المنطقة العازلة حيث يلجأ المستغيث قائلاً: “أنا داخل على الله وعليكن”، فيصبح دمه حراماً حتى يُحكم العقلاء. وبتلك الحالة ترسم المضافة ميثاقاً مقدساً، يشبه الحصانة لكل مظلوم أو حتى ظالم إلى أن تحل القضية ودياً بين حكماء القوم؛ وهذه ليست فقط آلية حصانة فردية بل وحصانة مجتمعية لمنع هدر الكرامات وانتشار الفوضى.
وقد تصبح المضافة في حالات الحرب غرفة عمليات: حين تشتعل النزاعات المسلحة، تتحول المضافة إلى مركز توزيع المؤن والمساعدات، ومقر تنسيق الدفاع عن القرى، وملاذ آمن لإيواء النازحين. جدرانها البازلتية تصبح درعاً معنويًّا يذكّر الجميع بأنهم “أهل جبل واحد” رغم السلاح.(لكن مجازر أيلول خرقت كل المعاهدات)
المضافة هي المركز الاجتماعي للجبل
هنا يعقد القران ويُشهر الزواج، وتُقام الأفراح، ويُستقبل العزاء، ويُحتضن المغترب العائد وتقام لمة العيلة الممتدة، حيث أن المضافة تحتضن كل الأنشطة الاجتماعية والعائلية في السراء والضراء.
كما أن المضافة تحاكي مقهى الحكواتي، تحفظ التراث الشفهي ويتشرب الصغار القيم والأخلاق عبر الحكايا حيث يجلس الكبار والصغار على “التواطي”، بينما يقص المتحدث قصصاً عن مقاومة الفرنسيين والمعارك التي خاضها الرجال الأشداء، وتُنسج هذه الحكايات بلهجة جبلية قوية، وتُختتم بـ”عبرة” تُذكِّر الجميع بقيم الكرامة والتضامن. وبهذا تصبح المضافة أرشيف حي للتاريخ والمحن التي حلّت والحلول التي استخدمت وأهم شيء تعلم الدروس من الماضي.
كانت المضافة ملجأ إنساني ومركز إستضافة قبل اختراع المنظمات الإنسانية والحماية الدولية، يحتمي فيها الغريب قبل القريب، فمن آداب المضافة أن بابها مفتوح صيفاً وشتاءً، ليلاً ونهاراً، للقاصي والداني، تشبه الفندق لكن الإقامة مجانيّة وفيه يعامل الإنسان لا كنزيل إنما كضيف يكرم ويصان. المضافة سبيل ينام فيه التائه ويأكل الجائع وتحفظ فيه الكرامة، تلك هي آداب المضافة.
التحولات الطقسية: حدود العام والخاص والمناطق الرمادية
في هذا الفضاء الذي يبدو للعين بسيطاً، تبدأ التحولات الطقسية بتبديل وظيفة العناصر دون أن تُغيّر شكلها؛ فالمضافة لا تُعلن انتقالها من الخاص إلى العام، بل تُآذاره بهدوء، عبر إعادة توزيع الرمزية داخل المكان.
أولاً، تنقلب طاولة القهوة من منضدة ضيافة إلى منصة قضاء، لا عبر تغيير مادتها، بل عبر تبدّل السياق الاجتماعي الذي يُفعّلها. هنا، يدخل الفضاء المدرك في حوار مع الفضاء المتصوَّر، حيث يُعاد تعريف الشيء ذاته وفقاً لوظيفته الرمزية الجديدة.
وبذلك تنتقل الصور المعلّقة على الجدران من كونها إرثاً عائلياً إلى رموزٍ جامعة، لا لأنها تغيّرت، بل لأن الجماعة قرّرت لها أن تُقرأ من جديد. في هذه اللحظة، يتداخل المتخيَّل الجماعي مع البنية المادية، ويُعاد إنتاج السلطة الرمزية داخل الفضاء حين تُتخذ القرارات المصيرية.
أما الباب المفتوح، فهو لا يُغلق ولا يُفتح، بل يتحوّل إلى عتبة طقسية، تُعيد تعريف الداخل والخارج. حين يدخل المستجير، لا يُستقبل كضيف، بل يُعاد إدماجه في الجماعة عبر فعل الحماية. هنا، يتجلى الفضاء المعاش بكل قوته: لا كحيّزٍ يُستخدم، بل كجهازٍ يُعيد تشكيل العلاقات، ويُعلّق التراتبيات، ويُفعّل ميثاقاً غير مكتوب حيث يغدو الحيز حدوداً مقدسّة تُذكّر الجميع: “هذا ليس بيت فلان، بل بيتكم جميعاً”
وهكذا، لا تُخلط المضافة بين العام والخاص عبر الفوضى، بل عبر طقوسٍ دقيقة تُعيد توزيع المعنى، وتُحوّل المكان إلى نصٍّ اجتماعيٍّ يُقرأ بحسب اللحظة، والوظيفة، والوجدان. إنها ليست انتقالاً من وظيفة إلى أخرى، بل انزياحٌ في القراءة، يُعيد إنتاج الفضاء ككائنٍ حيٍّ يتنفس الجماعة، ويُعيد تشكيلها كلما دعت الحاجة.



الرمز الذي لا يُدفن: المضافة بين النار والذاكرة
حين يُستهدف الفضاء الذي يُجسّد الجماعة، لا يكون الاعتداء مجرد فعل مادي، بل هو قتل رمزي، ذلك النوع من الإلغاء الذي لا يُحطّم الجدران فقط، بل يُقصي المعنى، ويُسكت اللغة، ويُطفئ الذاكرة. كما وصفه، فإن غياب التمثيل أو تشويهه لا يُضعف الهوية فحسب، بل يُنكر وجودها، ويحوّلها إلى هامشٍ لا يُرى ولا يُسمع.
ما جرى في السويداء في تموز ٢٠٢٥ ، من حرق ممنهج للمضافات هو انتهاك الكرامة المتجسدة بجدرانها البازلتية، وتدنيس “أيقونة جماعية” تسمى المضافة تُنظم إيقاع المجتمع، وتشريد الإنسان من “مسكنه الوجداني” حيث يشعر بالأمان. لا، لم يكن مجرد حرق مضافة، بل كان محواً متعمّداً لرمزٍ يُعيد إنتاج الجماعة، ويُنسج فيه التوازن بين الفردي والجماعي، بين الطقس والسلطة، وبين الحماية والانتماء.
توسّعت غاي توكمان في هذا المفهوم، وبيّنت أن القتل الرمزي لا يحدث فقط عبر الإقصاء، بل أيضاً عبر التحقير والتشويه. وهذا ما تجلّى في تكسير صور الرموز، وإهانة كبار الجماعة، وحلق الشوارب وتصفياتٍ عرقية داخل مضافاتٍ كانت تُعتبر حصوناً أخلاقية. لقد تمّ تفكيك البنية التي كانت تحفظ الجماعة من الانهيار، لا عبر العنف الجسدي فقط، بل عبر إلغاء شرعيتها الرمزية، وتجريدها من قدرتها على تمثيل ذاتها أمام نفسها.
أما بيير بورديو، فقد وصف هذا النوع من العنف بأنه عنف رمزي أو عنفٌ ناعمٌ، غير مرئي، يُمارَس عبر اللغة، والطقس، والمؤسسات، ويُجبر الجماعة على قبول موقعها المُهان دون مقاومة. حين تُحرق المضافة، لا يُدمَّر المكان فقط، بل يُفرض على الجماعة أن تُعيد تعريف نفسها خارج فضائها، خارج لغتها، وخارج طقوسها. وهذا ما يُنتج شرخاً وجودياً، لا يُرمَّم بالحجارة، بل يحتاج إلى استعادة الرمزية، وإعادة بناء المعنى من جديد.
بهذا المعنى، أكد الاعتداء على المضافة بذاتها أنه لحظة إقصاء وجودي، حيث لا يُقتل الإنسان فقط، بل تُقتل صورته عن ذاته، وتُمحى اللغة التي كان يُعرّف بها نفسه داخل الجماعة. إنه ليس تدميراً لمكان، بل تفكيكٌ لعقدٍ رمزيٍّ دقيق، كان يُعيد إنتاج الحياة، ويُرمّم الشروخ، ويُقاوم التفكك.




لماذا يعجز الحجر عن تعويض الرمز؟
في نهاية هذا المسار، لا يعود السؤال عن المضافة سؤالاً مكانياً بل وجودياً بامتياز: لماذا يعجز الحجر عن تعويض الرمز؟ لأن المضافة ليست جدراناً تُبنى وتُهدم، بل هي جهازٌ حيٌّ يُعيد إنتاج الجماعة، ويُنسَج فيه المعنى كما تُنسَج العلاقات. وظيفتها العامة ليست صالة استقبال بل هي الدستور غير المكتوب الذي يُنظّم المجتمع، ويُحسم فيه النزاع، وتُصان فيه الكرامة. أما وظيفتها الخاصة، فهي الرحم الاجتماعي الذي يلد الانتماء، ويُعيد تشكيل الذات عبر الطقس، لا عبر القانون.
حين يُحرق هذا الفضاء، أو تُكسَر صوره، أو يُهان كبارُه، لا يكون ذلك مجرد تدميرٍ للمكان، بل هو قتلٌ رمزيٌّ لأيقونة الجبل، ومحاولةٌ ممنهجة لتفكيك التوازن الدقيق بين الفردي والجماعي. إنه اغتيالٌ للرمز الذي كان يُعيد إنتاج الحياة، ويُرمّم الشروخ، ويُقاوم التفكك.
المضافة جرحٌ لا يندمل
المضافة، بهذا المعنى، ليست جداراً يُعاد بناؤه، بل جرحٌ لا يندمل. قد تُرمَّم الحجارة، لكن كيف يمكن تعويض “قتل الرمز”؟ كيف يمكن إصلاح شروخ السكينة الداخلية؟ كيف يمكن استعادة فضاءٍ كان يُجسّد الوجدان، ويُخزّن ذاكرة الجماعة، ويُعيدها إلى ذاتها كلما تاهت؟
ختاماً، تبقى المضافة عند أهل السويداء الوطن المصغّر، روحٌ لا تُشترى، وكرامةٌ لا تُستعار. إنها التعبير الأصدق عن مقولة الجبل: “صدر المضافة إلك، والعتبة إلنا”.
أي أن تفتح قلبك قبل بابك، وأن تجعل من بيتك ملاذاً للحكمة، وملجأً للأمان، ومرآةً للكرامة التي لا تُطفأ، مهما اشتعلت النيران.