6dff68ad 33f3 40c0 8ba3 2f3920a54ab0

عن المقعد الخلفي والمضي أماماً: مشاهد متفرّقة 

نشرت أختي على إنستغرام صورة التقطتها من المقعد الخلفي لسيارتنا. تظهر فيها أمي وأبي من الخلف، وطريق من طرق جبل السويداء أمامهما. كتبت عليها: it will never be the same again. لن تعود الحياة كما كانت أبداً.

الصورة مبكسلة ومعتمة، لكن يمكننا استشفاف تفاصيل كثيرة: نسخة صغيرة من القرآن معلقة في المرآة، لوحة السيارة المخلوعَة أمام أمي مكتوب عليها “دمشق”، ذقن أمي في المرآة الجانبية، وجبين أبي في المرآة الوسطى.

فطرت الصورة قلبي. طلبت من أختي أن ترسلها لي للاحتفاظ بها، دون الجملة التي كتبتها.

للمفارقة الساخرة، وبمحض الصدفة، نشر صديقي السوري يزن صورة بالتركيبة نفسها بعد ساعات. هو جالس في الخلف فلا نراه، نرى فقط والده يقود وأمه في المقعد الأمامي. على عكس “ستوري” أختي كتب: “أجلس في المنتصف، تماماً كما فعل يزن الصغير”، ووضع علم سوريا الجديد وكلمة hello مع الموقع: دمشق، سوريا. كان يقول إنه عاد إلى موطنه.

نرى في الصورة رأس والده في المرآة، ووجنة أمه اليسرى.

هذه ليست المرة الأولى التي يستوقفني فيها مشهد كهذا. عهدت مشهد الجلوس في الخلف وأقدّره. صممت أن أستشعر اللحظة كلما عدت إلى السويداء. تماماً كيزن، أشعر أني “سامي الصغير” من جديد. أتذكر فيديوهات التقطتها لأمي وأبي من تلك الزاوية دون علمهما. من المدهش أن ترغب بتصوير أحبابك حتى لو لم تظهر وجوههم. كان بإمكان أختي أن تنشر صورة لوالدي وهما يواجهان الكاميرا ويبتسمان. لكنها نشرت هذه، لا حباً بهما فقط، بل رثاءً لحياة تبدو الآن بعيدة.

هذه الصورة أكبر منا ومن الحرب. تعبر عن طفولة انسلخنا عنها دون عودة، ونعيش كبالغين نحاول عبثاً اللحاق بها بتفاصيل صغيرة. نصير آباءنا وأمهاتنا. نصنع قهوة الصباح كما كانوا يصنعونها، نضع المسلسلات على التلفاز ونكتفي بصوتها. المقعد الخلفي يذكّرني بالراحة، ولعل ذلك أكثر ما أفتقده من طفولتي: راحة تامة قبل أن نعرف أنها راحة. أن تغفو في السيارة بعد “مشوار” لتستيقظ صباحاً في سريرك. هناك من يحملك، وأنت غافٍ على كتف والدك. أفتقد ذلك الشعور. أن كل شيء سيكون على ما يرام. أن كل الأخطاء مغفورة، وأن هناك من يحميك من أشرار الدنيا. ما دمت في المقعد الخلفي، كل شيء بخير.

السيارة وسيلة نقل نعم، لكنها أيضاً مكان للذكريات. قد تكون سلاحاً متحركاً، لكنها غالباً قوقعة تحمينا. منزل ثانٍ نعيش فيه حياة كاملة: رحلات للريف، الذهاب إلى العمل، مقعد الطفل الصغير، المشاوير، الأغاني، المناوشات.

كلما بدأت أمي تسترجع أيام ما قبل ولادتي تقول: “وقت كان عنا السوبارو”. أما أنا فعرفت البيجو البيضاء ذات المقاعد القماشية. رائحة الخبز الطازج تفوح فيها بعدما يشتري أبي الأرغفة الساخنة ويفرشها على المقعد الخلفي كي لا يترطب الخبز في الكيس. عرفت الذراع اليدوية لفتح الشباك، أول تمارين الصبر والجهد كطفل. عرفت البيجو في الصورة التي نشرتها أختي. كانت البيجو حاضنة الذكريات.

  • “والله مناح هالجماعة، لطيفين.”
  • “إي والله يزّيهن الخير.”

هذا الحوار يتردد على لسانيهما بعد كل زيارة. شهدت السيارة أيضاً مناوشاتهما، لا مشاجراتهما. يحبان كلمة “مناوشة” لأنها ألطف. شهدت كل الأحاديث وكل أغاني جوزيف صقر وزياد الرحباني على سي دي وحيد يعمل دائماً.

يؤلمني الماضي، ويخيفني أكثر من المستقبل. الماضي لا يعود، ونبقى نستذكره وننتظره أحياناً. وما هو أفدح من مرور الزمن فقدان معالمه في حاضرنا: بيت تهدم، بيت احترق. وما أكثر هذه البيوت في السويداء اليوم.

تموضع زاوية التقاط الصورة في الوسط يتوافق تمامًا منظور ذكرياتي في السيارة؛ كنت دائماً محشوراً في المنتصف بين أختيّ. لا أطالب بالجلوس قرب النافذة، أستسلم وأجلس في الوسط وأمد رجليّ إلى الجانبين. حين كبرت وصرت أطول، أصرّت أمي أن أجلس في الأمام بجانب أبي. أثقل ذلك قلبي. كنت أشعر أنني أتعدى على مساحة تخص أمي، وكأن قدري أن أبقى في الخلف، لا أرى سوى ربطة شعرها البنفسجية من الخلف والحافة الحمراء لنظارات أبي الشمسية. الانتقال إلى الأمام كان طقس عبور. علامة بلوغ. تجلس بجانب السائق حين يبدأ شاربك بالظهور. كم كرهت ذلك. المقعد الأمامي في ثقافتنا للأكبر قدراً، لا للأكبر عمراً فقط. ماذا يعني أن تجلس أمي في الخلف وهي أعظم ما عرفت. ماذا يعني أن أجلس أنا في الأمام وأنا “سامي الصغير”.

المرحلة الأخيرة كانت مقعد السائق. محاولات أبي لتعليمي القيادة لا تنتهي. يوقف السيارة فجأة على جانب الطريق ويقول: “يلا انزل”. أجلس خلف المقود وأشعر بكل شيء إلا السيطرة. ربما راحتي الحقيقية ما زالت في الخلف.

أكتب هذه السطور وأنا على متن طائرة إلى بيروت، حيث تنتظرني أمي وأختي اللتان تمكنتا من مغادرة السويداء عبر معبر بصرى الشام. المعبر “الإنساني” الوحيد حالياً. خلال الأيام الماضية استُهدفت سيارات مدنية على الطريق، إطلاق نار كثيف على سيارات وباصات نقل، خلّف إصابات وحالات وفاة وخطفاً وأضراراً مادية. رأيت الصور. سيارة مخردقة بالرصاص.

انتشر فيديو من كاميرا مراقبة يظهر سيارة تُستهدف وتنحرف وتصطدم بعمود عليه كاميرا. اقتربوا وأخذوا الأطفال من المقعد الخلفي. ألعن عالماً لا يشعر فيه طفل بالأمان في المقعد الخلفي مع أمه وأبيه. سُلبت طفولتهم، وأشعر أن طفولتي سُلبت معي.

اشترى أبي لأخي سيارة كيا ريو صارت لاحقاً سيارة الجميع. مع ذلك، ما زلنا نعدّ البيجو البيضاء سيارة العائلة. تعلّم عليها الجميع القيادة، باستثنائي على ناقل الحركة اليدوي. ركنت السيارة طويلاً، وأبي يصرّ أن يشغّلها بين حين وآخر. لا يريد أن يتخلى عنها.

ما زال الحصار مستمراً على السويداء. الغذاء والأدوية والمحروقات تنفد. استبدل أبي وأختي السيارة بدراجة هوائية كانت مركونة في البيت. ربما لهذه الدراجة ذكريات أيضاً. آمل أن يكون كل شيء على ما يرام. آمل أن ينعم يزن بزيارة لطيفة في دمشق.

في مطار دبي، وأنا أسرع نحو الطائرة، سمعت “النداء الأخير إلى دمشق”. توقفت في مكاني. كانت أول مرة أسمع “سوريا” أو “دمشق” في مطار بعد عودة بعض الخطوط. شعرت بالحزن. ربما لن أخطو سوريا قريباً، بقراري أو بغير ذلك. ثم درت رأسي ومضيت باتجاه أمي وأختي.

تخبرني أختي أنها قادت السيارة عند أنباء دخول قوى الأمن العام إلى السويداء باتجاه صلخد شرق المحافظة. جلست في مقعد السائق، أمي إلى جانبها، وابنة خالتي وأولادها في الخلف يبكون. لن تنسى هذا المشهد ما حييت. ظلت تنظر في المرآة الأمامية لتطمئن أن الجميع بخير. تنظر إلى يمينها إلى أمي، مريضة السكري، لتطمئن أنها بخير. السماء فوقهم كانت سوداء من دخان الاشتباكات والقذائف. السيارة تمثّل أدوارنا: من في الأمام يطمئن إلى من في الخلف، يناوله أقراص الفلافل، يهدئ الأطفال، يتأكد إن غفوا أم لا.

في مشهد سوريا اليوم سيارات على الجانبين، رمزياً وحرفياً. سيارات تغادر، وأخرى تعود إلى وهم الوطن. سيارات مخردقة بالرصاص، سيارات تحمل شعارات مؤيدة للحكومة الجديدة، سيارات بلا لوحات، سيارات مسروقة، سيارات ملطخة بالدم. لعلنا نشعر جميعاً بالأمان يوماً ما، جالسين في المقعد الخلفي. أودّ ولو مرة أخيرة أن أجلس هناك، وأن تجلس أمي في الأمام، ترجِع يدها إلى الخلف لأمسكها كما كنا نفعل، وأبي يغني مع جوزيف صقر: “قوم فوت نام، وصير حلام إنو بلدنا صارت بلد.”