في مساء قريب، تحوّل ملعب صغير في السويداء إلى صفحة من كتاب المدينة. مدرجات مكتظة، وجوه يعلوها الوقار، دموع لا تُخفي قوتها، وأطفال مصطفون كتشكيلة دولية محترفة. قمصان مرتبة، أكتاف متلاصقة، وكأس تُرفع كما لو أنها تعيد الغائب إلى مكانه في الصورة. لم تكن مباراة عادية، بل رسالة مكتوبة بوضوح: هذه المدينة ما زالت تعرف كيف تصنع معنى من الخسارة، وكيف تحرس كرامتها وهي تودّع «الكابتن الصغير» صالح سمير عكوان.
لسنا هنا لنجادل حول المقاطع المصورة أو سردياتها المتنازعة. قد يختلف الناس حول التواريخ والمصادر، لكن هذه الصور تقول ما هو أبقى: أطفال يقفون كمنتخب، يحملون الكأس ودمع الفخر في العيون، جمهور يتعامل مع اللحظة بجدية ووقار، وحكام شباب يقودون اللقاء بثقة. الحقيقة الآن واضحة في اللقطة الثابتة أكثر من الجدالات المتحركة.



صافرة البداية. ينتقل اللعب من دائرة الوسط إلى الجهة اليمنى بتمريرات قصيرة تبحث عن الإيقاع. الدقيقة ٧ تشهد أول تسديدة، تلامس الشباك الخارجية، فيصفق الجمهور للنية قبل الهدف. الحكام الثلاثة في تموضع سليم، والحكم الرئيسية، شابة رياضية الحضور، تضبط المشهد بابتسامة مقتضبة وإشارة حازمة. الانضباط حاضر عند البوابة الرئيسية، التنظيم يسير بسلاسة، والمدرجات شبه ممتلئة. الدقيقة ٢٢ تشهد وقفة صمت، تتلاشى فيها الأصوات إلا من اسم واحد يتردد على نحو خافت وواثق: صالح.
المعنى لا يقف عند حدود النتيجة. في وسط حزن عام، يبتكر الصغار طريقتهم في التذكر. لا يرفعون خطاباً، بل يرفعون كأساً صغيرة. معدنها يلمع في الصورة، لكنه يلمع أكثر في العيون. هذه الكأس خفيفة الوزن على اليد، ثقيلة بالرمز في القلب. حين ترتفع من أيدٍ صغيرة تصبح أكبر من المعدن. تصير وعداً جماعياً بالاستمرار.

حضور طبيعي ينفي الشبهة
من العناصر اللافتة حضور الحكم الشابة على نحو طبيعي. لباس رياضي مريح، وقفة واثقة، وصفارة تضع القاعدة وتزكي اللعب النظيف. لم يحتج المشهد إلى تبرير أو تعليق. اللاعبون يتعاملون معها بجدية مطلقة، والجمهور يرد على الأداء بما يستحقه من تصفيق. أحياناً يكون الرد الأكثر بلاغة هو الصورة العادية التي تمضي بالحياة كما ينبغي.
في الصور فريق صغير يتصرف كجماعة ناضجة. طفل يشد على كتف زميله، آخر يرفع الكأس بحذر كأنها أمانة، وثالث يثبت نظره نحو العدسة. ليست هذه ميوعة ولا استعراضاً، بل بروتوكول غير مكتوب. كل لاعب يعرف مكانه، وكل يد تعرف متى تُصفق ومتى تُمسك القلب كي لا يقع. هكذا تتكون ذاكرة عامة من تفاصيل دقيقة.
الشوط الثاني يبدأ بضغط عالٍ من الجهة اليسرى. تمريرة بينية تفتح المساحة، ثم تدخل حكيم يوقف الهجمة لمسة بلمسة ويعيد اللعب إلى نسقه الصحيح. لا أحد يطارد نتيجة على اللوح. النتيجة الوحيدة المقروءة للجميع أن يبقى اسم صالح في صدر اليوم. بين الشوطين تُرفع الكأس مرة ثانية. ليست احتفالاً ببطولة، بل تثبيتاً لمعنى.
التنظيم بدا متيناً قياساً بمباريات تكريمية سابقة. عناصر الحماية على الأبواب، حركة دخول وخروج منضبطة، ومدرجات امتلأت حتى آخر الدرجات. في الجهة المقابلة للمدرج صفوف إضافية من الناس امتدت على طول الملعب. الحزن حاضر في الوجوه، لكنه ممسوك بكرامة. شهادات قصيرة في الختام تحدثت عن صالح كما عرفه زملاؤه ومدربوه: موقف في تمرين قديم، نكتة على خط التماس، ابتسامة تسحب الغضب من الهواء.




















الصور التي لا تتلعثم
قد يطول السجال حول صدقية المقاطع الأولى أو تفاصيلها، غير أن الصور التي بين أيدينا الآن لا تتلعثم. أطفال بزي فريق محترف، كأس ترتفع بثبات، حكم شابة تدير اللقاء كما يجب، وجمهور يمنح الطقس معناه. هذه هي السويداء التي نراها في هذه اللقطات. مجتمع يواجه فقدانه بالتماسك ويعيد تعريف الوقفة في ملعب كرة قدم.
دعوا المناظرات جانباً لحظة. انظروا إلى ما هو أمامكم. ملعب صار ساحة وداع كريم، وجمهور أدى طقساً مدنياً من دون وصاية، وأطفال تعلموا في تسعين دقيقة ما قد لا تعلّمه سنة كاملة. الشجاعة أحياناً هي ضبط النفس لا اندفاعه. العدل أحياناً هو صفارة واثقة لا ترتجف. والكرامة لا تُشترى ولا تُهان.
في ذلك المساء لم تُسجل الأهداف في الشباك، سجلت في الذاكرة. اسم واحد ظل يلمع مثل ضوء أخير فوق العشب: صالح سمير عكوان. تحية لروحك يا صالح. تركت لنا طريقة للوقوف، لا قصة للرثاء فقط. هنا، في السويداء، ما زالت كرة القدم لغة للعدل وفناً للوداع الكريم. وحين يكون الحكم عادلاً والجمهور منصفاً واللاعبون صادقين، تبدأ المباراة من صافرتها ولا تنتهي بها.