kids flying taawfiq shayas kites by faraf abu assali

توفيق شيا الفنان والإنسان والصديق

ناطور الحياة والجمال.. وداعاً

التقيت الفنان التشكيلي الراحل توفيق شيا في مكتب صديق كنت أعمل معه في جرمانا بريف دمشق سنة ٢٠١٠، فتحت الباب وقتها وتفاجأت برجل مربوع بشعر رمادي وعينين مجنونتين، تقولان من نظرة واحدة أنه على وشك اقتراف شقاوة.

إنسان فريد في فنه وشكله وطريقة كلامه ومفرداته ولباسه، لا يمكن أن تلتقي به وتنسى تفاصيل اللقاء حتى بعد أكثر من ١٥ عاماً.

يومها تعرفت للمرة الأولى شخصياً على فنانٍ طالما تلصصت في سنوات سابقة على مشغله بمدينة السويداء، حيث كان خالي يأخذنا لنتفرج على المنجنيق، الذي يمكن أن نلمحه في محترفه، كان المحترف والمنجنيق وصاحبه المجنون أشبه بحكاية غرائبية شخصياتها خيالية.

بعد ١٥ عاماً من لقائنا الوحيد فاجأني ذات الوجه مجدداً، هذه المرة كان صاحبه يمشي مبتعداً في فيديو قصير، يتكئ على خشبة ويسير نحو الغياب، ولا شيء آخر معه، إلا حضوره الأيقوني وتاجه الأبيض. رحل توفيق شيا منتصف تموز/تموز ٢٠٢٥ برصاصات حملها في صدره١ ومشى نحو كرسيه، الذي طالما جلس عليه أمام الباب ليحدث العابرين، وأغلق عينيه إلى الأبد.

اجتمع أصدقاؤه في صالة جذور السويداء مساء الأربعاء ٢٥ آب ٢٠٢٥ ليودعوه، بعد أن اختطفه العنف الذي عصف بالسويداء بين ١٤ و١٧ تموز، لكن فناناً وإنساناً استثنائياً مثل توفيق كان صرحاً ومعلماً من معالم السويداء، لا يمكن وداعه في حفل تأبين، ولا يمكن أن نبكيه مرة واحدة، لتوفيق علينا حق الذكرى، حق أن نبقيه حياً، وأن نشرب كأسه معاً مرات ومرات، لنسكر بحب الحياة ونضحك مثله في وجه القباحة.

من هو توفيق شيا الفنان والمصمم المبدع؟

فنان تشكيلي ومصمم ولد عام ١٩٦١، تخرج من كلية الفنون الجميلة قسم الإعلان في منتصف الثمانينات، وبدأ مسيرة فنية حافلة بالترحال والمشاركات الداخلية والخارجية، اشتهر بتصميم وصناعة كراسٍ فريدة، وصفها نقّاد أنها اقتصادية وسهلة الحمل وذات بنية فائقة الغنى، عرض نماذجها في رحلاته وشارك بها في ملتقى المصممين العالميين بمدينة سانت إتيان الفرنسية، التي احتضنت معرضه الفني عام ١٩٩٢.

عام ٢٠٠٤ أوكلت إليه شركة فرنسية مهمة تنفيذ نموذج منجنيق يحاكي منجنيق صلاح الدين الأيوبي، نفس المنجنيق الذي استرقت النظر إلى مراحل تنفيذه قبل أن ألتقي صانعه المبدع بسنوات، وتمت تجربته في صحراء تدمر وفي تل شيحان شمال السويداء، ووُثقت مراحل صناعته في وثائقي فرنسي.

ولعل إحدى أهم محطات رحلته الفنية هي طائرته الورقية بمساحة ٢٠٠ متر مربع، التي حلقت في سماء دمشق عام ٢٠٠٨ عندما كانت دمشق عاصمة للثقافة العربية، إلى جانب ٢٢ طائرة أخرى مساحة كل منها ٣٠ متراً مربعاً، وحملت إحداها صورة السيدة فيروز، التي يعشقها توفيق حسب ما يروي أصدقاؤه، يوم أحيت حفلها ضمن فعاليات دمشق عاصمة الثقافة العربية.

عمل بعدها على مشروع فني يحتفي بالشاعر الفلسطيني محمود درويش، بنشر قصائده على ذيول طائرات ورقية لتحلق ككتاب طائر في سماء السويداء، ونفّذ المشروع أكثر من مرة في أكثر من موقع، بينها تل جنجلة في ريف السويداء الذي استضاف ملتقى لنحاتين سوريين وعرب وعالميين، وفي منطقة عين المرج في ريف السويداء حيث رتب عرضاً للطائرات الورقية وورشة عمل لتعليم الأطفال فن صناعة الطائرات الورقية، استمرت الفعالية أسبوعاً كاملاً وأطلق توفيق خلالها على الموقع اسم “مطار محمود درويش”، ولا يزال كثيرون في السويداء يشيرون إلى تلك المنطقة في عين المرج على طريق الجبل بهذا الاسم.

كانت أواخر أعماله طائرة ورقية صممها ونفذها وطيّرها لاحقاً في حدث بملعب صلخد في مدينة صلخد جنوب السويداء، بمناسبة اليوم العالمي للتوحد، تحمل شعار “لست وحدك.. نحن معك”.

من هو توفيق شيا الإنسان والصديق؟

الأخ الأصغر لأربعة إخوة (أختان وأخّان)، كبيرهم المخرج الراحل رياض شيا. عاش توفيق حتى مقتله في “جنة الرماد”، وهو الاسم الذي أطلقه أصدقاؤه على منزله في السويداء، بعد أن كتب أحدهم قصيدة أدونيس التي تحمل ذات الاسم، على الجدار المعدني الخارجي لمحترفه الفني الملاصق للمنزل.
لم يستطع أصدقاؤه الحديث عنه بعد، وهم يحاولون استيعاب خسارته وتصديق رحيله، واختاروا بدلاً من الحديث أن يكتبوا مرثياتهم الخاصة فيه.

يصف المعلم والكاتب أسامة هنيدي لقاءه الأول مع توفيق: “حين دخلت للمرة الأولى قبل خمس عشرة سنة إلى مشغله ومحترفه أحسست أنني محاط بالفتنة من كل صوب، كأن ديونيزيوس اتحد لوهلة مع أبولو لإنتاج هذه الفتنة، سحر كل تفصيل، عذرية كل زاوية، حتى وجبة عشاء تلك الليلة عقب الكؤوس كان لها مساحة نظرية بقصاصات ورقية، كتب عليها توفيق مقادير خلطة المعجنات، والحقيقة أنها كانت خلطة جذب الشخص والمكان”.

يقول هنيدي: “حين ترى ذلك المكلل بالبياض الراكض في الأمداء المفتوحة ممسكاً خيط طائرته الورقية، ستعرف أي نوع من الأطفال هو توفيق، حين تراه وهو يهز للأطفال أرجوحتهم التي صنعها بيديه وزرعها بين شجرتين بحبال الفرح، ستعرف أي نوع من العاطفة يملك توفيق، حين تجلس مرتاحاً على كرسي وثير صنعه ذات يوم، ربما تدرك أن يديه كانتا تؤثثان هذا الخراب لتصنعا منه وسائد أحلامنا ومسراتنا، توفيق الإنسان كائن مصنوع من ملح الأرض وصلصال الملذات وصخب البازلت”.

ويتابع هنيدي في رثاء صديقه: “لم يكن قارئاً نهماً أو محترفاً، لكنه كان يملك أذناً سحرية تجمع رحيق الكلمات من كل الأصدقاء، وتنثرها بنبر الممسوس بفاكهة اللغة البكر ليولد عسل المسرات الصاخبة، يحب الرحابنة حد الجنون ويحب متفرعاتهم كلها، كان يقول لي دوماً أن الرحابنة قالوا كل شيء وهم أكمل مدرسة موسيقية عربية، ولم يستسغ أبداً أي شكل من أشكال الغناء الحزين، بل كان يشغّل في جنته دائماً نغمات الأغاني التي تحتفي بالحرية والحياة والفرح”، ويضيف: “هكذا كان توفيق يترك سجيته كطائرة ورقية يلعب الهواء الخفيف بها على هواه، وإلا فكيف يمكن له أن يحتل قطعة أرض في الجبل ويسميها مطار محمود درويش، لم يتمالك صاحب الأرض نفسه من الضحكات المجلجلة، حين صار المارة يسألونه أين يقع مطار محمود درويش”.

أما قصي مقلد (كاتب) الذي يقول أنه تعرف على توفيق في ٢٠١١، بعيد انطلاق الثورة السورية، واحتضنه الأخير في لحظات صعبة من حياته، أرسل يقول: “في وداع توفيق شيا لا نكتب عن إنسان عابر، ولا عن ذكرى عادية، نحن نرثي رجلاً عاش على الحافة بين الشعر والجنون، بين الفوضى والسكينة، بين لعن الظلام وإشعال شمعة من قصيدة، رجل لم يكن يشبه أحداً ولن يتكرر مثله أحد”، ويضيف: “في قلب بيته، صنع عالماً خاصاً، كان وطناً صغيراً للمنبوذين والعابرين والمثقلين بأحمالهم، من جلس هناك كان يشعر أن المكان يتنفس بروحه، وأن الحجر والشجر يضيئان بنوره، وبدونه؟ ليس إلا جدراناً صامتة وأغصاناً بلا حياة”.

ويروي مقلد تفاصيل العلاقة الإنسانية الخاصة التي قربته أكثر من الفنان الراحل، حين لجأ إليه في لحظة ضعف وانكسار: “غلبني الاكتئاب حتى خذلني جسدي، لجأت إلى جنة الرماد، لم يسألني سؤالاً واحداً، لم يطلب مني تفسيراً ولا تبريراً، بل عاملني كأبٍ نادر الحنان، احتواني بصمته، جعلني أنام مطمئناً، وأيقظني على ضحكته، هناك تعرّفت على توفيق الإنسان، لا الأسطورة فقط، وأحببته أكثر”.

أما السيناريست والكاتب محمد ملّاك فقد رثى توفيق بقوله: “إذا كان لهذا الزمن طرفة بن العبد يقدس الحياة ويعيشها لآخر قطرة، لن يكون إلا توفيق شيا، الإنسان والفنان والصديق، طاقة الحياة الإيجابية فعالية وحباً وجمالاً، لن يلتقيه المرء يوماً وينساه، صاحب الحلول والهمة التي لا يقدر عليها ولا يمتلكها الناس العاديون”، ويتابع مستحضراً روح شيا: “من غيره أراد لمحمود درويش تأبيناً في السماء، حين طارت طائرة توفيق الورقية بذيل مساحته نصف دنم تحمل وجه درويش وأبياته الرائعة؟ من غيره يصنع من أبسط الكلمات ملاحم حين ينطقها؟ من غيره يصنع من كأس عرق وحبات بندورة جبلية وكرات لبنة وليمة لا تنسى؟ في محترفه تملك الأشياء معانيها الخاصة والكلمات مقاصدها الخاصة، وبين لحيته البيضاء وشعره الأشعث وابتسامته وحماسته نبت الفرح وتألقت الحياة وأورقت الصداقة”.

ويضيف ملّاك: “توفيق وأمثاله هم نواطير الحياة والجمال في وجه قباحة الدمار والموت، الذي تسير به قطعان الكلاب الوحشية المسعورة، لكن ما أنا متأكد منه أن ذاكرة ومثالاً وقوة وحضوراً وفناً وإنسانية كتوفيق شيا، لا يمكن أن تموت، مثل ما أنني متأكد أن إرادة الحياة في السويداء ستهزم الحصار والموت، وسيتابع أهلها رسالة المحبة والخير والسلام”.

هذا هو توفيق شيا بعيون وقلوب أصدقائه، مَعلَم من معالم السويداء، سيبقى حاضراً دوماً فيها، ليس لأنه فنانٌ ومصممٌ لا يتكرر فحسب، ولا لأنه حالمٌ مجنون خارج عن المألوف، ولا لكونه صديقاً استثنائياً للكبير والصغير، بل لأنه مزيج ساحر من كل ذلك، هو الوحيد الذي صنع من فوارغ القذائف أجراساً يقرعها لأجل سوريا، هو الذي باع واحدة من طائراته الورقية بأربع رصاصات رماها سعيداً منتصراً، لإنقاذ حياة من كانت هذه الرصاصات منذورة لنهبها، وداعاً توفيق.

  1. وفق روايات متقاطعة لأصدقاء ومقرّبين. ↩︎