ولدتُ هناك، في نقطة رخوة بين السهل والجبل. السهل يزحف من دمشق مثقلاً بضجيج المدن، والجبل يصعد نحو السويداء كمن يرفع الناس إلى قلوبهم. حدود لا تفصل، بقدر ما تخيط. هناك، صارت القرية مشهورة بمطارٍ عسكريّ شارك في الحرب، لكن السرّ الذي لا يعرفه كثيرون أن خلخلة، مثل كل قرى الجبل، لم تُدار يوماً بالسلاح، بل بقواعد أقدم من الحرب: الألفة.
في خلخلة، العائلة تجاوزت حدود الكلمة في الهوية واللافتة على باب الدار. العائلة أشبه بشجرة توت عجوز، جذورها متشابكة تحت الأرض. شبكة خفية تلتفّ كما يلتف الهواء حول رئتيك. لكل عائلة صندوق صغير، لا يُملأ بالمال وحده، وإنما بتعب الأيام وثِقل السنين والكثير من الحب. المقتدر يضع فيه صامتاً، كمن يلقي خشبة في نار الشتاء ويمضي دون أن يراه أحد. المحتاج يمدّ يده مطمئناً، كما يمدّها في صحن بيته. لا أحد يسأل عن مستند أو توقيع، الضمان الوحيد هو الاسم: أن تكون ابن هذه الأرض، أن تحمل دماً من دمها، أن يسبقك وجهك قبل كلماتك. العائلة هنا جهاز حماية غير مرئي. يلتقط الانكسار قبل أن يقع، ويمدّ اليد قبل أن يسقط الجسد كاملاً. في الأعياد تُفتح البيوت كموائد مفتوحة للجميع. في المصائب تُغلق على الغريب قبل القريب، كي يجد نفسه واحداً من أهلها.


الحياة هناك كانت تُدار بالتفاصيل الصغيرة، الهاتف الوحيد كان شرياناً بين البيوت. مكالمة واحدة كافية ليعرف الجميع: من وُلد، من تزوّج، من يحتاج دماً، ومن انكسر قلبه ويحتاج فنجان قهوة بلا كلام. القهوة نفسها طقس: ثلاث رشفات للترحيب، ثلاث صمتات للأخبار، وثلاث نيات للمصالحة. كل فرن بيت كان فرن الجميع ساعة الحاجة. وفائض الطعام قانون خفي: الصحون الساخنة لا تؤكل وحدها. . تخرج في صحونٍ صغيرة إلى الأبواب القريبة، كأنّ حرارة الطعام لا تُحتمَل إلا بالتقاسم.
هل كانت القرية تخلو من التنافرات؟ بالطبع لا. قرابات تتعانق وأخرى تتباعد، حساسيّات بين أبناء العم، شجارات عابرة على ظلّ شجرة أو قسمة ماء. لكن الدم لم يُسجَّل. لم تُعرف ثارات ولا مذابح. كان هناك رجال صامتون يجلسون على كراسي القش أمام الدكان، يرفعون أيديهم فيسكن الغبار. يسمّيهم الناس “وجهاء”، لكن اسمهم الحقيقي: حرّاس السياق. يحمون ما يجعلنا “نحن” حين يشتد الكلام.
أكتب هذه التفاصيل وأنا أعرف أن الخرائط تغيّرت. أعرف أن الخوف مرّ من هناك، وأن القرية دخلت نشرات الأخبار لأن وحدات عسكرية تمركزت على أطرافها. مجموعات وافدة بلباس الأمن والسلاح احتلّت المكان. لكن قبل ذلك وبعده، خلخلة هي موسم زيتون لا يُقطف إلا جماعة، عنب يُوزّع قبل أن يدخل المخزن، جرن يُدار حوله الحَبّ تحت شمس الصيف، وتينة في آخر الساحة يعرف الجميع أنها للزوّار.


حين شاع خبر “الغزوة” لم ينشغل الناس بالأسماء: حملة، مداهمة، تمشيط. سألوا سؤالاً واحداً: أين الأطفال؟ رُفعت البنات أولاً إلى السيارات الصغيرة، حُملت الأمهات الشيء القليل ودفتر الأرقام. الرجال تقاسموا الطريق: من يفتح، من يغلق، من يؤخر، من يفاوض، من يضحي. هنا لا أصف مشهد بطولة في فيلم هوليودي. إنه تقسيم عمل أخلاقي: من يواجه، من يخفف، من يحفظ الحكاية للأيام القادمة.
خرج أهل القرية إلى المجهول، لم تكن هناك خطة مكتوبة. كانت الخطة بوصلة القلب: إن ضاقت الطرق، نلجأ إلى بيت فلان. إن أُغلق الوادي، نكسر الحقل بين الزيتونتين. إن قُطع الجسر، نمشي على صخور اللجاة التي عرفناها صغاراً. الخرائط الرسمية لا ترى هذه المسالك، الذاكرة تراها. حين كتبت “هربوا”، لم أعنِ الفرار. أعني نجاة جماعية: أن تخرج وأنت تحمل الآخرين في قلبك، أن تحسب خطواتك على إيقاع أعمار أضعف من ساقيك.
اليوم القرية تحت احتلال فعلي: وجوه غريبة، لهجات لا تكمل الجملة على مقامنا. لا أريد أن أضيف قاموس كراهية إلى ما يكفينا، لن أسمي الناس قطعاناً ولا قبائل. أعرف فقط أن الاسم حين يُسحب من المكان يتغير الهواء ويثقل الظل، يصبح الصباح غريباً حتى لو أشرقت الشمس نفسها على نفس الدار. الاحتلال الحقيقي ليس البندقية على الزاوية وحدها، إنه اللغة حين تُنتزع من فم المكان.
سيقول قائل: هذا حنين، والحنين هروب. أجيبه: الحنين طريقة في العدّ. نحن نعدّ أنفسنا بالصور والحكايات كي لا نصبح أرقاماً. نعدّ أفران الطين، حبق الشارع المنثور، شجرة التوت عند المفترق، موعد القهوة الصباحية مع رجل غاب خلف نقطة مجهولة. هذه ليست نوستالجيا، هذا قيد ملكية على الذاكرة. نحن أصحاب المكان بما صنعنا فيه من ألفة لا تُباع.


في خلخلة، المحبة بُنية. تُبنى كما يُبنى السقف، طبقة فوق طبقة. حين انهارت الأسقف الكثيرة في البلد، بقيت هذه البنية تمسك الهواء فوق رؤوسنا. لا أبرّئ قريتي من التعب، من الهجرة، من الغضب، من الندوب. لكن أعرف أن الخير ليس شعاراً شعبوياً هناك، إنه عادة. والعادات، حين تنكسر مرة، تبحث عن طريق آخر كي تعود. سيعود الناس، وستفتح البيوت المغلقة. سيُرمم صندوق “المكارمية” ويُكتب على غلافه اسم واحد: نحن أصحاب الأرض.
الأنثروبولوجيا تقول إن الجماعات الصغيرة تنجو لأنها تتذكر نفسها. سيأتي يوم تُرفع فيه الأيدي الثقيلة عن الطرق. سيعود الاسم إلى باب البيت، والظل إلى شجرة التوت، والقهوة إلى مقامها. إلى أن يحدث ذلك، سنحفظ لغة القرية كما نحفظ أسماء أمهاتنا: بلا تصحيف ولا تنازل. سنحفظ أن الحب هو الشرط المؤسس لكل ما كنّاه. وصية الألفة: أن نعيد تشغيلها كل صباح، حتى لو كان هذا الصباح بعيداً.